تعددت الآراء حول نشأة الكتابة التاريخية المحلية وبواعث نموها ومظاهر انتشارها بعامة، وفي المشرق الإسلامي بخاصة، فهذا النوع من الكتابة هو وليد الشعور بالقومية، وتعبير صادق عن ارتباط المؤرخ بإقليمه واعتزازه بوطنه، كما أن ظهور هذا النمط عند المؤرخين المسلمين يرجع إلى الاتصال الحضاري والامتداد التراثي بوقوفهم على النماذج والمؤلفات الخاصة بالمدن التي تم فتحها، أو عملت الدولة الإسلامية على جمع معلومات عنها، كما هي الحال في تواريخ أنطاكية وروما والقسطنطينية.
وينكر روزنتال هذا الرأي بحجة أن أقدم الكتب الإسلامية المحلية المعروفة نشأت في العراق وليست في الشام، ومن المعروف أن القرن الثالث الهجري التاسع الميلادي، شهد مولد الكتابة التاريخية المحلية بشكل واضح بسبب انتشار حركة الترجمة إلى العربية، وأصبح في متناول علماء المسلمين معرفة إسهامات أقرانهم في اليونان وبلاد الفرس والهند وغيرها من الحضارات، فساعد ذلك على نقل التجارب والمناهج التي امتلكتها الحضارات السابقة لعلماء المسلمين الذين قاموا بنقلها وأضافوا عليها، فحدث الامتزاج الفكري الذي كان من نتيجته الاستمرارية والتواصل العلمي.
د.إبراهيم علي القلا الأستاذ بكلية الآداب بجامعة جنوب الوادي أشار في دراسة له بعنوان «الكتابة التاريخية- الكتابة المحلية في المشرق الإسلامي» إلى أن للعامل السياسي أثره في ظهور الكتابة التاريخية المحلية، حيث كانت الخلافة الإسلامية على مدى قرنين من الهجرة تعبر عن الوحدة السياسية والإدارية للعالم الإسلامي، وتدور في فلكها من الناحية الإدارية الولايات في المشرق الإسلامي، وخاصة بعد أن استقرت الفتوحات الإسلامية وانتشر الإسلام بين أهالي تلك الأقاليم الجديدة، فأثر ذلك على المناخ السياسي السائد في الدولة العباسية ونظامها في الحكم، فتحولت إلى دولة إسلامية ذات انتماءات عنصرية وسياسية مختلفة. ومن أسباب ظهور الكتابة الإقليمية، الدويلات المستقلة كأسر ونظم حاكمة وافقت الخلافة على وجودها مضطرة، فواكب هذه الدول توجه ثقافي يميل إلى الإقليمية أو المحلية، خاصة بين الفرس فانطبع ذلك على الكتابة التاريخية، حيث كانت الأسر الحاكمة هي التي تطلب من بعض المؤرخين كتابة تواريخ الأقاليم وبعض المدن، بهدف تسجيل الإنجازات السياسية والحضارية التي تمت في فترات حكم هذه الأسر، وهذه النوعية من الكتب كانت بطبيعة الحال مطبوعة بطابع الذاتية إلى حد كبير، ويضاف إلى ذلك أن توزيعًا جديدًا للمدارس التاريخية قد ظهر بعد خمود جذوة مدرسة بغداد المسيطرة حتى أوائل القرن الرابع الهجري، حيث إن الأقاليم الجديدة من العالم الإسلامي دخلت بدورها ميدان التأليف التاريخي، فقد وجد في البلاد المختلفة من شعروا بهذه الحقيقة، وبأن لديهم من الأخبار والأحوال ما يستحق التسجيل، وفي ذلك الكثير من النزعة الوطنية من جهة، ومن نزعة التقدير للأخبار المحلية المشهودة مقابل الأحداث البعيدة غير المشهودة، وهذا هو مبرر تأليف عدد من التواريخ المحلية الإقليمية، وهناك سبب وجيه للكتابة المحلية، حيث كان لكل قطر كما قال المسعودي «عجائب يقتصر على علمها أهله، وليس من لزم جمرات وطنه وقنع بما نمى إليه من الأخبار عن إقليمه كمن قطع الأقطار ووزع أيامه بين تفاوت الأسعار واستخراج كل دقيق من معدنه...»، فالواجب على صاحب المعرفة من أهل البلاد أن يعلم معظم أبنائها ويحفظ أيام أمرائها، وعليه أن يبدأ بكتب حديث بلده ومعرفة أهله.
ومن أسباب الكتابة التاريخية المحلية التفاخر بحمل الروايات والحديث، والتنافس بين الأمصار في الرواة والرجال والسند وكثرة الحفاظ، فكثير من المؤلفين أعطوا المبررات لإقدامهم على التأليف لأقاليمهم أو مدنهم رغبة منهم في إبراز علماء بلدهم وإثبات فضله، فبعضهم سمى هذا النوع من التاريخ فضائل مثل «كتاب فضائل بلخ» أو «محاسن أهل بلخ» لأبي زيد البلخي من رجال القرن الرابع الهجري، وبعضهم سماه بشكل أدق «طبقات المحدثين»، مثل طبقات المحدثين بأصفهان لأبي الشيخ الأنصاري عبدالله بن حيان توفي سنة (396هـ/1005م)، أو تاريخ مدينة بغداد أو بخارى.
كما أن الرحلات كرحلات الحج والوفود وحب الاستطلاع والتجسس، والدعوة، كلها كانت تسهم في كسر الطوق الإقليمي المحلي عن التواريخ، وتدفعها رغم عناوينها الإقليمية أحيانًا واهتماماتها المحلية إلى الإحاطة بأخبار بعض أقاليم العالم الإسلامي أو كلها.
وبالإضافة إلى ما سبق ذكره في سبب وجود الكتابة الإقليمية المحلية، فقد أدى الازدهار الاقتصادي الذي تمتعت به معظم بلدان المشرق الإسلامي في القرون الثالث والرابع والخامس للهجرة، التاسع والعاشر والحادي عشر للميلاد، بتقدم الزراعة والصناعة والتجارة مما أدى إلى تمكين السلطات المحلية وأمراء الأقاليم من منح العلماء والمؤرخين الذين كانوا معهم الهدايا والهبات، مما ساعد على انتشار كتب التواريخ الإقليمية.
أما العامل الأخير فيرتبط بالعنصر الاجتماعي والنفسي، حيث يميل الإنسان بطبعه إلى مسقط رأسه في الاهتمام بالتواريخ المحلية في كل الأزمنة تعبيرًا عن شعور الجماعة، وقد سيطر الفكر الإقليمي المحلي على انفعال المؤرخ، فكان نتاج ذلك العديد من كتب الأقاليم والمدن، حيث كانت الظروف السياسية بالمشرق الإسلامي بأقاليمه المتعددة أشبه بمجتمعات منفصلة سياسيًا وعسكريًا في القرون الثالث والرابع والخامس للهجرة.
ويرى القلا أنه يمكننا أن نميز في كتابة التاريخ المحلي الإقليمي بين نوعين واضحي المعالم، ولكنهما متصلان، أحدهما دنيوي والثاني ديني.
1- التاريخ المحلي الدنيويترجع أقدم أمثلة كتب التاريخ المحلي الدنيوي الإسلامية إلى العراق، وأقدم ما تم تأليفه في تاريخها «تاريخ بغداد» لأحمد بن أبي طاهر طيفور المتوفى سنة 288هـ/900م، وهو يشكل فصلا خاصا بخطط بغداد، ثم تتابعت المؤلفات المحلية الدنيوية عن مصر والشام والأندلس وغيرها.
أما في فارس وبلاد ما وراء النهر فقد ظهر التاريخ المحلي الدنيوي بصورة واضحة، باعتباره مظهرًا من مظاهر القومية الفارسية أو التركية والتي عرفت بالشعوبية، والتي كان لها أثرها في الدراسات التاريخية، أو سعى أصحابها إلى تشويه تاريخ العرب فاهتموا بالتوسع في الثقافة الفارسية والتراث الفارسي، ومثال لذلك التاريخ المحلي الدنيوي عن خراسان كتاب «تاريخ أصفهان» لحمزة الأصفهانى، و«تاريخ قم» للحسن بن محمد القمي، و«محاسن أصفهان» للمافروخي.
اهتمت الكتب الدنيوية في الغالب بطبوغرافية المدينة وتاريخها القديم وعادات أهلها وتقاليدهم، فكان الكتاب يتألف من مقدمة تدور حول تخطيط المدينة وعمرانها وأحيائها، أما مادة الكتاب فكان عمادها الأساسي دراسة الشخصيات التي كان لها مكانة مرموقة في البلد أو الإقليم، وإن كانت هذه الشخصيات اقتصرت في بادئ الأمر على رجال الدين، ثم تطورت وشملت كل الشخصيات البارزة في الإقليم من أدباء وعلماء وتجار وأعيان، وأقدم ما وصل إلينا من هذا النوع من التاريخ كتاب «تاريخ واسط» لأبي الحسن أسلم بن سهل بن حبيب الرزاز المعروف باسم بخشل الواسطي المتوفى فيما يقرب من سنة 288هـ/900م، وهذا الكتاب يتضمن تاريخ واسط وأطرافها وعلماء الدين فيها وبعض الرواة.
2- التاريخ المحلي الدينيالكتب التي ظهرت في هذا المجال استهدفت تمكين القراء من الاطلاع على التاريخ الديني لهذه المدن، ومثال لذلك كتاب «تاريخ بخارى» للنرشخي، حتى تصور بعض المؤرخين أن معظم كتب الأقاليم خلال القرنين الرابع والخامس للهجرة أقرب لطابع المؤلفات الدينية منها إلى المؤلفات التاريخية، ومما جعلهم يتصورون ذلك افتتاحيات الكتب وما كانت تضمه من أحاديث نبوية وأقوال الصحابة في مدينة ما.
وفي القرن الرابع الهجري أصبحت التراجم مرتبة على حروف الهجاء، وكان ذلك الأساس الذي اعتمدت عليه كتب التاريخ المحلي الديني، وأقدم كتاب تاريخي محلي ديني رتب على نظام المعاجم هو «تاريخ علماء الأندلس» لأبي الوليد عبدالله بن القرضي الأندلسي المتوفى سنة 403هـ/1012م، وأيضًا اتبع الخطيب البغدادي الذي عاش في القرن الخامس الهجري في كتابه تاريخ بغداد طريقة المعجم في ترتيب أسماء التراجم وأسماء آبائهم، واتبع مؤرخو المشرق الإسلامي هذا النهج في كتبهم عن التراجم.
وقد ظلت اللغة العربية هي اللغة الأدبية الوحيدة في العالم الإسلامي بأسره على مدى القرون الثلاثة الأولى للهجرة، وذلك راجع لوحدة العالم الإسلامي وتماسكه، وتشجيع الخلفاء للعلم والعلماء، كما أنها لغة القرآن الكريم، وقد حرص الجميع على تعلمها، خاصة الشعوب التي دخلت في